الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل الثاني والعشرون: طبول حرب


"برد تشرين بهرّ المصارين".

وفي الشوارع كان رماة الحجارة بالايدي و"المقاليع" يخرجون بكثافة وهم يرتدون الملابس الثقيلة.. وكوفيات سوداء وبيضاء، و"شماغات" حمراء تغطي رؤوسهم .. بينما كان بياض أنفاسهم الخارجة مثل السحاب من افواههم يختلط بسواد الدخان المتصاعد من الاطارات المشتعلة.

وبالمقابل، كان الجنود المتمترسين قد ازدادوا عدداً في المدرعات والآليات التي كانوا يطلقون منها الرصاص بكثافة منذ ان اعلن الرئيس الامريكي عن مبادرة تشمل جميع القضايا في الشرق الاوسط لامتصاص ما احدثته مبادرة العراق لسحب قواته من الكويت مقابل انسحاب اسرائيلي متزامن من فلسطين، وآخر سورياً من لبنان، وهو ما زرع أملاً عند الفلسطينيين بانهم باتوا يقتربون اكثر من عتبة التحرير، فراحوا يصعدون بالانتفاضة من جانبهم ايضاً.

ولكن في اليوم الذي ظهر فيه الرئيس العراقي صدام حسين في شوارع الكويت، كان اكبر حصار استهدف بلداً واحداً منذ الحرب العالمية الثانية قد اكتمل براًّ وبحراًّ وجواًّ حول العراق.. فهناك عشرة سفن حربية في مياه الخليج، و24 سفينة في خليج عمان، و13 سفينة في البحر الأحمر، و11 سفينة في البحر الأبيض المتوسط، وطائرات أواكس في تركيا.

وإضافة لمائة الف جندي امريكي من بين قوات 26 دولة تمركزت بمواجهة الحدود مع العراق والكويت، تدفق عشرات الآف الجنود الآخرين القادمين من بريطانيا وايطاليا واسبانيا وفرق أخرى عديدة من بينها مصريون وسوريون وهم يثيرون ببساطيرهم غبار الصحراء لتحرير الكويت.

في اليوم نفسه ادرك العراق ان الامور دخلت مرحلة الجد.. وكذلك الفلسطينيون الذين حسبوا عليه..فاعلن رئيس البرلمان العراقي الاستعداد للانسحاب من الكويت في حال تأكدت مبادرة الرئيس الأمريكي جورج بوش، لكن الرد على ذلك كما اعلنه وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر هو أن المجتمع الدولي صار أكثر استعداداً لعمل عسكري ضد العراق.

اما في تل ابيب.. فقد بدأت طبول الحرب تقرع على الايقاع الامريكي، ووزعت الاقنعة الواقية من الغازات والمواد الكيماوية على الاسرائيليين فقط دون العرب الذين ظلوا منغرسين في اراضيهم منذ نكبة عام 1948.

وبينما كان العالم منهمك في تلك الأزمة، استيقظ الكون يوم الرابع من اكتوبر/تشرين الاول على ألمانيا موحدة، فيما صحا عمر على صوت تناهى شجياًّ الى مسمعه من خارج غرفته المغلق بابها عليه..

وعندما فتح اذنيه على اتساعهما ليستبين صاحبة هذا الصوت..قفز من سريره وهو لا يدري ما يفعل.. فقد كانت ولاء تحادث اخته.. ومع انه لم يتبين ما كان يدور بينهما بالتحديد.. لكنه ما ان سمع اسمه يخرج من شفتيها وهي تسأل ان كان ما زال موجودا في غرفته حتى شعر بان كل الدنيا حضرت اليه بكل تألقها في ذلك الصباح حاجبة من ورائها كل الضجيج الذي كانت تثيره عاصفة الحرب القادمة في الأفق من الصحراء.

ومن شدة الشوق واللهفة كاد عمر ان يخرج راكضاُ الى ولاء لمعانقتها.. لكنه وهو يمسك بقبضة الباب تنبه الى انه قد افاق لتوه من النوم، فكان شعره الذي راح يمسده باصابع يديه اشعثاً، ووجهه الذي راح يمسحه بكفي يديه ما زال ذابلاً.. وعيناه اللتان احاط بجفنيهما شيء من القذى خرج مغربلاً عندما فركه باصبعيه كانتا ما تزالان غائرتين في محجريها.. لكن كل ذلك لم يمنعه وهو يرتدي على عجل قميصاً يغطي به صدره العاري، وبنطالاً يستر "الشورت" الذي كان نائماً به من ان يخرج كي يراها بعد كل هذا الغياب الطويل.

ومدعياًّ انه كأنما أخذته المفاجأة من وجودها في المنزل، وقف للحظة في مكانه على الباب .. عيناه بعيناها لا تشيحان عن بعضهما..وخفقات تكاد تنطق من لوعة الفراق .. وعندما تقدمت نحوه للسلام عليه فيما أخته ما زالت واقفة بالقرب منهما..شعر أخيرا بان جبل المعاناة الذي حمله طويلا على كتفيه قد تهاوى مرة واحدة في اللحظة التي سرى فيها دفء اصابعها وهي تلامس أصابع يده التي امتدت نحوها كمن يطلب الصفح.

ولكن قبل ان تدير أخت عمر ظهرها لهما باتجاه المطبخ لاعداد شاي الصباح.. علا صوت بوق سيارة شعبان في الخارج ليسلب منه روعة لحظة الدفء الرائعة تلك.

وبعد قليل من انتظار شعبان، وقبل ان يعرف الى اين ستكون وجهتهما، قال عمر وهو يفتح باب السيارة:

-       يبدو انني لن استطيع ان ارى فارس في هذه الايام.

ورد شعبان:

·       لماذا؟ هل حصل شيء؟

-       كلا.. ولكن الجميع منشغلون بأزمة الكويت.. وقد وصلتني تعليمات من فارس بان انشط لتصعيد المظاهرات والمواجهات.

·       وابو النمر يريدنا ايضا ان ننشط أكثر في هذه المرحلة..

-       وما عساي ان افعل؟.. انهم لا يسمحون لي حتى الآن بحضور الاجتماعات التنظيمية، والبيان الجديد الذي انتظر اصداره لمحو ما لحق بي من عار لم يصدر بعد.. ومعظم الذين اعرفهم من قبل ما زالوا يتجنبون الحديث معي.. بل ان من بينهم ما زال يشتمني كلما رآني ويتهددني بمصير أسود..

-       والاسماء التي كلفت باسقاطها؟ ماذا فعلت بشأنها؟

·       بصراحة لم اتمكن من تحقيق اي تقدم حتى الآن.. صحيح انني بدأت التعارف مع من لا اعرفهم منهم.. لكن الجميع كما ترى يستعدون للحرب.. وأزمة الكويت تستقطب اهتمام الجميع.. والمجال ضيق جداً للحركة. ما الذي تنصحني بعمله؟

وصمت شعبان قليلا وهو يفكر ثم قال:

·       هذا الوضع لا يعجبني.. ولا يعجب ابوالنمر أيضاً.. وقادة الشبكة طلبوا ان نبحث وضعك بعد ثلاثة أيام في بيتي..

ورد عمر محاولا الحصول على معلومات اكثر:

-       قصدك ليلة الجمعة؟

ثم تابع مستفسرا:

-       اية ساعة؟

لكن شعبان احبطه في الرد عندما قال:

·       ليس مطلوبا منك حضور هذا الاجتماع.. فهناك موضوعات أخرى غير موضوعك يجب علينا ان نبحثها في هذا الوضع، وليس مسموحاً لي اطلاعك عليها دون موافقة ابوالنمر اولا.

-       وما الذي يمنع ابوالنمر من الموافقة؟ فانا معك معظم الوقت منذ ان بدأت العمل معك.

ورد شعبان:

·       ولكن وضعك الحالي لا يسمح..وسوف نرى ما سنقرره بشأنك، وسوف ابلغك به صباح السبت.

ومع ذلك واصل عمر المحاولة قائلا:

-       ألستم مطمئنين لي بعد؟

ورد شعبان:

·       هذا عمل مخابرات يا عمر.. الإطمئنان شيء..وما يسمح بمعرفته شيء آخر.. ومن يجب ان يعرف أو من لا يعرف فهو شيء مختلف ايضاً..

وتوقف قليلاً قبل ان يتابع:

-       عموما، افعل ما طلبه منك فارس الآن، ولكني أريد منك ان تغطي وجهك بشماغ اسود ونظارة كبيرة وتلبس بنطال "جينز" بلون أخضر داكن وحذاء رياضيا أزرق، وان تكون في صدارة المظاهرات دائما وتحاول التعرف على أكبر عدد من القياديين الميدانيين في المواجهات.

ثم ناوله مظروفا به مبلغا من المال لشراء ما طلبه منه، موضحاً له انه بهذا الزي سوف يتعرف اليه الجنود فلا يتعرضوا اليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق