الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل الحادي عشر: شراك على الطريق


لم يكن شهر أيار قد انقضى بعد.. وفي أيار كما يقول الفلاحون "إحمل منجلك وغار".

ففي اواخر هذا الشهر يحين وقت الحصاد، وترى القرويين مشغولين في الحقول وهم يحصدون القمح لنقله الى البيادر حيث يتم درسه وتذريته بمذار خشبية تشبه كفوف اليد بأربع او خمس اصابع لعزل الغلة عن التبن المخلوط بها..

لكن حصاد عمر كان من نوع مختلف.. اذ لم تمض أيام هذا الشهر الذي اشرقت شمس الثاني والعشرين منه فوق جبال اليمن وسهوله لتعلن عن ميلاد يوم وحدوي عظيم وصفه البعض بالثورة الثالثة بعد ثورتي سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، حتى بدأت الخطة التي رسمها المطاردون تؤتي أكلها.. فقد صار كل شخص في القرية يعرف أن عمر قام بعمل تدور حوله التساؤلات.. ولكن ما هو ذاك العمل الذي قام به واستحق فصله من التنظيم؟ فهذا ما لم يكن يعرفه أاحد..

وقد ثارت وأثيرت الكثير من الشكوك والشائعات بشأن ذلك.. فمنهم من قال انه تسبب في كشف مسؤول خليته في التنظيم بمسلك خاطىء، ومنهم من صحح المعلومة بانه متعاون مع "الشاباك" وقد سلم خلية كاملة في عصيرة الشمالية.

ومع انه كان معروفاً عن عمر أنه شاب خلوق رغم اعجابه الذي لا يخفيه بالشخصيات الثورية .. الا ان الشائعات التي حامت حوله جعلت منه زير نساء مراهقاً، لم يكن يترك فتاة من بنات البلدة او القرى المجاورة دون ان يتحرش بها او يحضها على الفجور.. وهناك شائعات جعلت منه مراهقاً سكيراً يذهب كل فترة مع عدد من الشباب الى عاهرات تل ابيب، بل انه يروج حبوب "الكبتاغون" و"الامفيثامين" باسمائها الشعبية المعروفة بين طلاب المدرسة والشباب.

وبعضهم من ربط قرار فصله بشيء ما يتعلق بواحد من افراد عائلته مع ان العديد منهم فوجئوا بانه كان عضوا في التنظيم اصلاً..

وكذلك شعبان، فقد عجز هو الآخر عن معرفة السر الذي استوجب فصل عمر، مع انه كان اول من حرصوا على معرفة السبب الحقيقي.

أما الصدمة المفجعة فكانت من نصيب ولاء التي انهار كل شيء أمامها في لحظة خاطفة كاللحظة التي ولد فيها الحب بينهما.. لحظة لم تجد لها تفسيراً عند أخت عمر أو والدته او حتى عند خالها حسام.

وفي آخر مرة التقته فيها في منزله قبل ان يفاجئها خالها حسام بالاّ تذهب الى ذلك البيت ايا كان السبب او المبرر، وقف عاجزاً عن الاجابة او الدفاع عن نفسه إزاء الشائعات التي كانت تثار حوله في القرية .. وهو الذي كانت ترى فيه صورة لفارس أحلامها البطل قبل ان تراه، وقبل أن يعصف حبه في قلبها، أو عن مصارحتها بالحقيقة عندما راحت تذكره وهي تبكي بشدة بالسبب الذي هربت من أجله لكي تفجع بمواجهة مصير مماثل معه..

وفي ذلك اليوم، كان شعبان عائداً بسيارته من نابلس حينما شاهد عمر يسير على الطريق الترابي المؤدي الى البلدة، فتوقف عارضا توصيله معه الى البيت.. لكن عمر تعمد إبداء التردد باستياء واضح، ومع ألحاح شعبان اجابه:

-       ألا تخشى ان تلوث سمعتك أنت الآخر.. لقد جعلوني كالفيروس.. لا احد يريد الاقتراب مني او التعاطي معي..

فابتسم شعبان وقال له:

·       هوّن عليك يا عمر .. نحن أقارب.. ولو صدّقنا كل ما يقال عن أي شخص في القرية لما ظل فيها احد.

ورد عمر:

-       عموماً .. لا يهمني ما حدث.. فانا أثق بنفسي جيداً.. وقد تجاوزت الأمر.

·       ولكن ما الذي حدث؟

قالها شعبان وهو يفتح باب السيارة لعمر، والذي لم يمانع في الدخول إليها والجلوس الى جانبه قائلا:

-       حكاية طويلة.. سأخبرك عنها يوماً ما؟

·       ولماذا ليس اليوم.. هل انت مشغول؟ يمكننا الخروج من القرية ان أردت حتى نطيل المشوار.

فرد عمر:

-       الى نابلس؟ لا مانع .. توّكل على الله

ودار شعبان بالسيارة.. وحاول إغلاق المذياع الذي كانت تصدح منه اغنية "فات الميعاد" لأم كلثوم، تاركاً المجال لعمر الذي إمتزج عنده الواقع بخيال الخطة التي ينفذها كي يروي الحكاية.

لكن عمر إختار الواقع عندما طلب منه الابقاء على الاغنية، فيما راحت عيونه تلاحق الأشجار في كروم الزيتون واللوز المجاورة على الطريق، وقد انبسط تحتها فراش أخضر من العشب تبزغ من بينه ورود الحنون الاحمر التي شق بعضها الصخر.. وأزهار الزعمطوط بلونيها الابيض والبنفسجي ليبدو المشهد مثل سجادة طبيعية خلابة، ثم قال:

-       لا حكاية ولا ما يحزنون.. أساساً أنا لم أكن عضواً في التنظيم.

·       لم تكن عضواً؟ فلماذا أعلنوا فصلك منه إذن؟

-       لا أعرف.. ولكني كنت نصيراً لهم في المدرسة .. فخطهم السياسي كان يعجبني.. ولكني الآن نادم على كل لحظة عملتها من أجلهم.. "طز" في قيادة التنظيم كلها..و"طز" في فراس الذي أصدر قرار الفصل".

·       معقول ما تقول؟ فالانصار لا تصدر قرارات بفصلهم؟

-       هذا ما حصل؟

·       يا عمر .. أنا إبن عمك.. ألا تأتمني على سرك؟ ربما أتمكن من فعل ما قد يساعدك.. تحدث ..أخبرني .. ماذا حدث؟

-       صدقني لم يحدث شيء.. كنت مجرد ناشط طلابي.. وقد نفذت بعض التكليفات التي طلبوها مني.. لكنها لم تكن ذات أهمية كبيرة.

·       مثل ماذا؟

ورد عليه عمر مشدودا بلحظة الوجع التي لمست بها كلمات الاغنية التي تشدو بها أم كلثوم وجدانه قائلا بتذمر:

-       أرجوك يا شعبان.. أريد ان أنسى كل شيء.. ما فعلته فعلته وقد صار شيئاً من الماضي.. ولكنهم ما كانوا يستحقون ذلك.. لقد شوهوا سمعتي.. دعنا نستمتع بالمشوار.. إرفع الصوت قليلاً على "أم كلثوم".

ثم راح يدندن مع صوت "أم كلثوم" وقد قفزت في ذهنه صورة ولاء وهي تصدح بصوت أشجاه الالم: "تفيد بإيه يا ندم يا ندم.. وتعمل إيه يا عتاب.. طالت ليالي الألم واتفرقوا الأحباب.. وكفايه بأه تعذيب وشقى"...

أما شعبان فقد حاول كثيراً إظهار انه غير مكترث بمعرفة التفاصيل في تلك اللحظة، لكنه لم يستطع، فرفع الصوت قليلاً وقاطع دندنته قائلاً:

·       حسبما تشاء.. عموما الطريق طويلة.. إن أحببت أن تفضفض فلك الخيار، وأعدك بان يظل سرك في بئر.. وإن لم تشأ فليكن.. فانت شاب وأدرى بمصلحتك.

ومن جانبه رد عمر:

-       أنا اثق بك طبعاً.. أنت إبن عمي وتهمك مصلحتي.. والكل يعرفك في القرية ويسمع ما يقال عنك.

ورد شعبان مستوضحاً:

·       وماذا يقال عني؟

-       عن علاقتك بالتنظيم؟

وأدار وجهه نحو شعبان ليكمل متابعاً:

·       هل صحيح انك مسؤول كبير فيه؟

وبدرت من شعبان ابتسامة ثم سأل:

·       وماذا يقال ايضا؟

ورد عمر:

-       أنا لا احاول معرفة هذه المسائل.. فالعمل المقاوم يحتاج الى سرية.. خاصة وان الملاحقة اصبحت شديدة ضد المطاردين منذ اعلان الاستقلال.. ولكني اسألك لأنك ابن عمي..

صمت شعبان لبرهة ثم قال على نحو غطاه الغموض في الاجابة:

·       يعني.. ولكن ليس الى حد مسؤول.. وأظن أن فارس يعرف بأني أحب ان أخدم الجميع.. والعمل مع المقاومة ليس عيباً.. هذا واجب وطني.. اليس كذلك؟

ورد عمر:

-       طبعا.. ولكن عندما ينقلب الأمر عليك .. ماذا تفعل؟

واجاب شعبان:

·       أدافع عن نفسي .. وأقاوم ايضا .. المقاومة عمل مستمر في حياة المناضلين..

فتابع عمر:

-       صدقني .. ما فعلته للتنظيم كان مشرّفاً لي، ولحلمي في أن أكون بطلاً يشار اليه بالبنان.. ولكن ما فعله التنظيم بي كان عاراً على قادته.. وعلى فارس بالتحديد.. فقد خدمته كثيراً.. ولكن الأمور اختلطت يا شعبان.. الشريف يصبح سافلاً.. والسفلة يظهرون كالشرفاء أحيانا في نظرهم.

وحاول شعبان اقتناص الفرصة مجدداً:

·       وما الذي فعلته لفارس وكان يشرّفك؟

وما كان خافيا على عمر ما كان يريده منه شعبان، لكنه ظل على طبيعته وهو يرد:

-       ألم نتفق على أن لا نتحدث في هذا الموضوع الآن.. ربما أخبرك ذات يوم بتفاصيل اكثر.. لكن صدقني .. كل ما حصل لا يستحق ان تشوه سمعتي الى هذا الحد.. كان يكفيهم أن يصدروا بياناً بالفصل ويوضحوا السبب.. أما البيان الذي اصدروه فقد جعل كل شخص يخمن باني "عملت السبعة وذمتها". ولو تعرف ما صار يحدث لي في المدرسة.. الكل يتجنبني.. حتى المدرسين زادوا من توجيه التوبيخات لي لسبب ومن دون سبب.. ولو كنت مكاني.. لشعرت بالخزي من نظرات الاحتقار التي تلاحقني من مكان الى آخر.. أتركها لله يا رجل.. "خليك على ام كثوم"..

ثم اردف متوعدا بعد صمت قصير:

-        لكن والله لن اتركهم.. ساقاوم كما تقول.. وسأنتقم ممن كان السبب..

وعاد ليرفع صوت المذياع قليلا ليردد مع كلثوم وهي تواصل شدوها العذب: "من ناري من طول لياليّه.. من ناري.. ناري .. ناري.. وفرحة العذال فيّا.. من قسوتك وانت حبيبي.. وقسوة الدنيا عليّا.. بيني وبينك وهجر وغدر وجرح بقلبي داريته"...

واثناء ذلك ظل شعبان صامتاً.. وفي بعض الاحيان كان يدندن مع عمر.. ومن البعيد كانت جبال مدينة نابلس تتسامق أمام ناظريهما وقد كست احراش قممها أشجار السرو والصنوبر الخضراء.. تلك الاشجار التي كان عمر يرى فيها أبطال جبل النار وهم ينطلقون منها لمقاومة موجات الغزو الاستعماري موجة بعد اخرى..

ثم سأل:

-       هل تعرف لماذا اسموها نابلس يا شعبان؟

·       أعرف قصة الافعى العملاقة "لس" التي كان لها ناب ضخم طويل والذي بقي بعد نفوقها.. فسميت على اسم الناب: "ناب لس"..

وقاطعه عمر:

-       هذه اسطورة.. اما التاريخ فيقول إن الذي أنشأ نابلس هم الكنعانيون العرب وهم الذين سموها "شكيم"، وليس كما يدّعي اليهود الذين يلفظونها "شخيم".. وهي أول مدينة كنعانية نزل فيها سيدنا إبراهيم الخليل قادما من مدينة أور بالعراق، وبعده أتى سيدنا يعقوب من فدان آرام على نهر الفرات بالعراق.

ثم استراح معتدلاً في جلسته على الكرسي وهو يتابع كأنما يقرأ من أحد كتب التاريخ:

-       معنى "شكيم" باللغة الكنعانية الارض المرتفعة او النجد. وقد حكمها الامير الكنعاني "لابعايو".. وعندما ازدهرت غضب عليها الرومان فدمروها مع تسع مدن اخرى عندما احتلوا بلاد الشام، والذي أمر بتدميرها هو الامبراطور تيتوس، ثم جاء الامبراطور فسبسيانوس من بعده ليأمر باعادة بنائها.. وكان من عائلة اسمها "نيابولس" فسموها "فيلافيا نيابولس"، و"فيلافيا" في اللغة الرومانية تعني "الجديدة"، اي ان اسمها كان "نيابولس الجديدة" مثل "نيو يورك" الامريكية التي سماها البريطانيون نسبة الى مقاطعة يورك...ومع الزمن ظل المقطع الثاني من الاسم هو الدارج وتحور على السنة الناس ليصبح "نابلس" بدلا من "نيابولس".

ورد شعبان:

·       سمعت شيئاً من هذا القبيل.. لكني ما كنت اعرف ان "نيابولس" هو اسم عائلة الامبراطور كما تقول، كنت اظن انه اسم المدينة الايطالية التي أتى منها واصبح اسمها الان "نابولي".

وتابع عمر:

-       وأهلها ابطال شجعان.. قاوموا الرومان.. والبيزنطيين.. والصليبيين .. وتوالى عليهم الماليك والايوبيون والعثمانيون..

ثم اردف:

-       هل تعرف ان الذي بنى المسجد الحنبلي هو المظفر الملك سليمان بن عثمان؟ وان المدرسة الفاطمية بنيت في عهد السلطان محمد رشاد؟ وان المستشفى الوطني بني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني؟

ورد شعبان:

·       كلا .. لم اكن أعرف.. كنت لا أطيق دروس التاريخ في المدرسة.

-       ولكن هذا تاريخنا.. وهل تعرف ان "الطور" هو في الاساس معبداً لجوبتر أقامه الرومان على جبل جرزيم ثم صار معبداً للسامريين؟

ورد شعبان:

·       هل تريد اختباري في التاريخ؟.. دعك من ذلك.. فما فائدة ذلك كله.. نحن اليوم تحتلنا اسرائيل.. وهذا هو الواقع الذي لم أر غيره منذ ان احتلت قريتنا مع نابلس والقدس وكل الضفة الغربية عام 1967.. كان عمري أربع سنوات فقط يومها..

ورد عمر وقد فاجأته هذه المعلومة:

-       حقا؟ لم اكن اتخيل انك تكبرني بعشر سنوات..

ثم اردف:

- اليس عجيبا ألا تلاحظ فرقاً في الأعمار بين ابناء شعبنا؟ صغيرنا يكبر لكبيره.. وكبيرنا يصغر لصغيره.. كأن الشعب كله يظل شابا لا يشيخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق