الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل الرابع عشر: إعتقال عمر

تلونت قطوف الحصرم الحامض بالأصفر المخضر والأحمر المسود.. وتناثرت حبات الصبر بأشواكها مثل الكواكب حول مجرات قوالحها.. وأينعت أشجار التين بثمارها بين أوراقها العريضة في الكروم والبساتين المجاورة التي كانت تنبسط خضراء في محيط القرية وجبالها.

ورغم كل ما كانت تضفيه الطبيعة من جمال أخاذ يريح النفس في تلك القرية التي لم يصلها القيظ بعد.. الاّ من عادة الفلاحين ان يقولوا "في شهر تموز بتغلي المي بالكوز"..

ففي ذلك الشهر غلت الاحداث كثيراً وبسرعة.. وتلبد أفق الانتفاضة بغبار عاصفة قادمة كانت تثيره من الشرق عجلات الدبابات العراقية التي كانت تواصل التحشد حول الحدود مع الكويت، ومن الغرب ركام الانهيارات المتتالية في دول المعسكر الاشتراكي حليف الفلسطينيين التاريخي في كفاحهم ضد الاحتلال.

وفي الخامس عشر من يوليو بدأت الأمور تتفجر..

فقد وجه العراق إتهامات للكويت والإمارات بزيادة إنتاجهما عن الحصة المقررة لكل منهما من قبل أوبك، وإتهم الكويت بسرقة نفطه من حقل الرميلة الحدودي، وأتبع تلك الإتهامات بعد خمسة أيام بدفع حوالي 30 ألف جندي عراقي إلى الحدود مع الكويت.

وأثناء ذلك صب غموض الموقف الامريكي الزيت على النار التي كانت في طريقها لتصير حريقاً.

فبعد ثلاثة أيام من تصريحات في واشنطن عن عدم وجود إتفاقية دفاعية مع الكويت وعدم التزامات دفاعية خاصة نحوها، إلتقت السفيرة الأميركية في بغداد أبريل غلاسبي مع الرئيس صدام حسين لتبلغه أن بلادها ليس لديها رأي في النزاعات العربية-العربية، وحددت له بشكل خاص نزاع العراق الحدودي مع الكويت.

لحظتها تحرك العرب بحثا عما يطفيء الحريق قبل اشتعاله، ولكن رغم محاولات التوسط لإنهاء الأزمة في مباحثات أتفق على عقدها في جده، الا أنه بنهاية ذلك الشهر كان عدد القوات العراقية على الحدود قد ارتفع إلى حوالي 100 الف جندي.

أما على الجبهة الغربية، فقد كان الانهيار يتواصل في دول الاتحاد السوفياتي.. فاعلنت أوكرانيا السيادة على أراضيها وحقها في إنشاء جيش خاص بها، وتبعتها بيلاروسيا.

وعلى نفس الخطى، انقسمت يوغسلافيا الى صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك.. وكذلك أضحى الحال في تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت الى بلدين: تشيكو و سلوفاكيا.

وراح كل شيء كان يتهاوى بسرعة ..

وفي الثاني من "آب اللهاب" كما يصفه الفلاحون، ما عاد الشرق شرقاً.. ولا الغرب غرباً كما اعتاد عليه الجميع منذ ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها لتطلق أورار الحرب الباردة.

فقد وجد الفلسطييون أنفسهم بين ليلة وضحايا في تقاطع إنقسامات سرعان ما راحت تشق أخاديد أفقية وعمودية في كل الاتجاهات تاركة الانتفاضة التي لم تخب جذوتها على كف عفريت..

وفي تلك الليلة كان الجو ما زال حاراً في الخارج رغم أن الوقت جاوز منتصف الليل بقليل، وكان عمر ما زال جالسا أمام التلفاز مع افراد أسرته وهم يتابعون الصور.. دبابتان عراقيتان صبغتا باللون الابيض على مقدمة كل منهما تتمركزان على دوار في وسط الكويت.. وسحابة كثيفة من الدخان الاسود يسار برجها الشهير.. وجنود مشاة يتقدمون من منطقة صحراوية بدت أمامها بعض الاشجار.. ومروحيات تحلق في الجو.. وبنايات إتشحت أجزاء من واجهاتها بالسواد نتيجة القصف والحرائق.. وكويتيون يفرون على أرجلهم وبالسيارات الى إتجاهات غير محددة وان كان طابور طويل منها ظهر قريبا من الحدود السعودية.

وفي خضم نقاش ما كان يتوقف أثناء مشاهدة تلك الصور، تعالت أصوات جلبة وحركة صاخبة في الخارج، وقبل أن يهم أحدهم بالنظر من النافذة..صمّت آذانهم أصوات طرقات قوية على الباب إنفتح من شدتها.. وفي أقل من غمضة عين كان أكثر من 20 جندياً إسرائيليا في الغرفة وهم يصوبون أسلحة بنادقهم الـ ام-16 على كل واحد فيها آمرين إياهم بالثبات كل في مكانه.

وكان السؤال مباشرا من قائدهم وهو يحاول تمييز عمر من بين أشقائه الأصغر منه:

-       أنت عمر؟

ووسط حالة من الارتباك والفزع عمت في البيت، أجاب عمر:

·       نعم.. أنا عمر

وعلى الفور سحبه أحد الجنود بقوة من كتفه، ثم دفعه أمامه بعنف للخروج معهم دون التفات للتساؤلات والدهشة والخوف الذي تركوه ورائهم.

وفي الخارج، شاهد عمر الذي ألجمته الصدمة وحجبت عنه القدرة على التفكير السريع، عدة سيارات عسكرية تطوق البيت، وجنود بأجهزة لاسلكية ومناظير ليلية كانوا منتشرين في كل مكان في محيط المنزل قبل أن ينقض عليه احدهم لنزع القميص الذي كان يرتديه ويعصب به عينيه، ثم يضع يديه الى الخلف، ويوثقهما بشريط بلاستيكي شدهما الى بعضعها بعنف آلمه كثيراً.

ومع أن الطريق كان طويلاً على عمر الذي بطحه الجنود تحت أرجلهم في أرضية "الجيب" الخلفية وهو معصوب العينين، إلا ان ذلك لم يسعفه في استيعاب ما يجري.. والتفكير بسبب إعتقاله هذا..

فقد مضى على إعلان فصله من التنظيم أكثر من خمسة اشهر، ولم يترك تساؤلاً يدور في ذهن شعبان دون أن يجيب عنه حتى صدّقه.. وقلما كان يبتعد عنه طوال هذه الفترة.. وقد قبل أن يرافقه أكثر من مرة في "مشاوير" للتنزه في تل ابيب ونتانيا وحيفا، وأماكن اخرى كثيرة..وصار يقبل منه هداياه .. وأموالاَ كان شعبان يخرجها بين الحين والاخر من جيبه كي يأخذ منها عمر ما يشاء ليمتّع بها نفسه.

ولو كان الامر يتعلق بشعبان.. لما أخذوه من بيته بهذا الشكل المهين.

وفكر في أن المخابرات ربما نجحت في الإمساك بأفراد من التنظيم أوردوا إسمه تحت التعذيب لسبب أو لآخر..

لكن كل ما كان يفكر به كانت تبدده صرخة ألم كلما ركله أحد الجنود بين الفينة والاخرى وهو تحت أرجلهم، ثم يعود بعدها للتفكير من جديد.

وعندما توقفت السيارة أخيرا ونزل منها.. سرعان ما أدرك عمر بانهم يدخلونه الى مبنى "المقاطعة" في نابلس، فقد حفظ غيباً منذ المرة الاولى التي أوقفوه فيها قبل نحو عامين عدد درجات مدخله، والتي راح يضرب كل واحدة منها بأصابع قدميه للتأكد، قبل ان يصعدوا به معصوب العينين الى ما بدا له أنه غرفة خالية في الطابق الثاني.

وفي تلك الغرفة أجلسه الجنود راكعاً على قدميه في ظلمة دامسة، وظل وجهه نحو الجدار لنحو ساعتين، لكنه لم يشعر مثل المرة الماضية بوجود أحد غيره فيها. ولو كان هناك أفراد آخرين اعتقلوا معه من التنظيم لسمع شيئاً ولو همهمة أو صوت من يتنفس حوله.. فتأكد بانه كان وحيداً في ذاك السكون، وزاد ذلك من حيرته ودهشته، وراح يتوقع كل سؤال ممكن ان يطرح عليه، ويفكر بجواب لكل سؤال منتظر في التحقيق الذي لم يكن يعرف متى ستحين لحظته، وفي لحظة من الاستعداد النفسي بدا له ان أسوأ ما في الأمر هو ان يواجهوه بأحدهم، وحينها قد تنسف خطة الإنكار التي راح يبنيها بمواجهته بدليل يصعب التعاطي معه من دون تفكير مسبق.

وأخيرا حضر جنديان مرة أخرى وهو ما زال يفكر، أوقفاه من مكانه ثم اقتاداه الى غرفة أخرى كان وهج الضوء فيها قوياً الى حد أنه شعر بأنه فقد القدرة على الإبصار عندما رفعوا قميصه المعصوبة به عيناه .. لكنه جاهد ليرى نفسه واقفاً أمام ضابط بالزي المدني .. أصلع، طويلاً ، ضخم الجثة، له شارب كثيف، يجيد اللغة العربية باللهجة المحلية، وهو يبارده بالسؤال:

-       أنت عمر؟

ورد عمر وهو يحاول تكييف بصره مع قوة النور الساطع في الغرفة:

·       نعم أنا عمر

وأكمل الضابط:

-       وعضو في التنظيم؟

ورد عمر:

·       أي تنظيم؟

فرمقه الضابط بنظرة تحمل شراً .. لكن تلك النظرة المرعبة لم تمنع عمر من تكرار الإجابة نفسها بالنفي.

وعلى عكس ما كان يتوقعه عمر، والذي أعد نفسه للاجابة على السؤال التالي، فقد اكتفى الضابط بنفس تلك النظرة المخيفة وهو يحدق فيه، ثم راح يكتب على ورقة بالعبرية فيما عمر واقفاً، وعندما إنتهى توجه اليه قائلاً:

·       الوقت متأخر الآن .. وغداً السبت.. سأراك صباح الأحد.. وسوف نرى.

وخرج الضابط من الغرفة حاملاً ورقته التي وقع عليها، ثم سرعان ما حضر جنود آخرين ليأخذوه معهم.. ولكن ليس الى غرفة أخرى في ذلك المبنى.. وإنما بدون عصبة على العينين هذه المرة الى مبنى سجن نابلس الذي لم يكن يبعد اكثر من 500 متر حيث جرد من ملابسه وأعطي ملابس أخرى قبل نقله الى زنزانة انفرادية.

ومع أن عمر كان متعباً من إجازة ذلك اليوم الذي وترته أخبار الإٍجتياح العراقي للكويت.. ومن الركلات التي لم يفلت منها جزء في جسمه على الطريق من القرية الى مبنى المقاطعة.. والوقت الذي أمضاه في عتمة مطبقة .. الا ان النوم طار منه وهو يحاول فك اللغز الذي زاد غموضاً بهذا التحقيق الأولي من سؤالين فقط ومن ثم نقله الى هذه الزنزانة مباشرة دون المرور بالاجراءات التي اختبرها في المرة السابقة التي أوقف فيها، فقد احتجز يومها أولاً في غرفة النظارة قبل نقله الى احد اقسام السجن في الداخل.

وفي تلك المرة التي اوقف فيها لمدة اسبوعين ثم افرج عنه بكفالة لصغر سنه، كانت الأسئلة في أول جلسة للتحقيق كثيرة ومتلاحقة.. وقد أمضى يومها نحو ساعتين كان يتخللهما الضرب أحياناً من جندي مفتول العضلات ظل واقفاً خلفه طوال مدة التحقيق وهو يجيب عن أسئلة تتعلق باحداث وأسماء، وعدد الحجارة التي ألقاها على الدوريات والجنود، والإطارات التي أحرقها.. ومن كان يحضرها.. ومن أين.. والأماكن التي شارك فيها بالمظاهرات والمواجهات..

ولو ان السؤال كان يتعلق بمعتقلين آخرين من التنظيم لما انتهى التحقيق على هذا النحو السريع.. فقد كان الضابط سيسأله عن معلومات أو ربما واجهه بمعلومات.. لكنه لم يفعل.. وإنما تركه رهينة الانتظار حتى يوم الاحد.

ورغم القلق والحيرة.. الا ان عمر راح يستذكر أيضا تعليمات التنظيم في مواجهة ضابط تحقيق ماكر أو مخادع.. مثل هذا الضابط الذي لم يوحي شكله بغير ذلك من الوهلة الاولى.. فراح يعزز خطة الانكار برسم اتجاهات متوقعة لما يمكن ان يأخذه اتجاه التحقيق المنتظر صباح الاحد..سواء من حيث علاقته بالتنظيم.. أو ما يعرفه عن المطاردين.. وعن فارس.. وماذا طلبوا منه عندما التقاهم في المغارة إن كانت لديهم اية معلومات عن ذلك الاجتماع .. ومن هم الملثمين الذين اشبعوه ضربا في سوق القرية.. او عن طبيعة علاقته مع شعبان.. او بمعلومات ربما وصلت عن قطع "الخط الاخضر" من دون تصريح.. والفتاة التي حضرت من تل ابيب لمقابلته في محطة بنزين في مدخل رام الله..

وفي اليوم التالي راح يوسع من رسم الخطة وهو يجوب الزنزانة حائرا في الاسئلة المتوقعة وغير المتوقعة.. والاجابة المناسبة لكل سؤال..

وفي صبيحة الاحد كان يرى انه صار مستعداً.. وقادراً على تحمل الاسوأ والاصعب..

لكن يوم الاحد انقضى بكامله وهو عبثاً ينتظر قدوم أحد الجنود لاصطحابه الى المحقق في أية لحظة.. وعندما شعر بان الوقت دخل في الليل.. أدرك ان كل ما فكر فيه لن يكون له فرصة للتطبيق في ذلك اليوم.

وكذلك ظل الحال بعدها لمدة 11 يوما كاملة..

إذ كلما سمع وقع أقدام خلف ابواب الزنزانة، كان يعتقد بانهم قدموا اخيراً.. ولكن ما ان يتناهى الى سمعه إبتعاد خطوات الجنود حتى يغرق من جديد في تلك الحيرة القاتلة والتي لم يكن يخففها عدم التعامل معه بفظاظة عند إخراجه وحيداً "للفورة".. أو جودة الطعام الى حد ما بالمقارنة مع ما اختبره من قبل في توقيفه الاول... او سرعة استجابة شرطي الحراسة عندما يطرق على الباب لطلب أي شيء مثل كوب شاي، او جريدة يتابع منها أخبار اجتياح الكويت وتداعيات قمة القاهرة التي انقسمت بعد أسبوع من يوم إعتقاله.

وفي كل مرة كان يشتط به الغضب كان يصرخ على واحد من ثلاثة حراس كانوا يتناوبون عليه ولم ير غير وجوههم طوال تلك المدة ليسأله عن سبب وجوده في السجن؟ ولماذا حبسوه في زنزانة منفردة وليس مع آخرين؟ وأين ذلك الضابط الذي قال له انه سيراه بعد يومين ثم اختفى عنه؟ وماذا يريدون منه بالضبط؟

لكنه لم يكن يحصل على أي إجابة سوى : لا أعرف.. إنتظر وستعرف.

ومع ذلك كان ثلاثتهم يظهرون نوعاً من الود والاستجابة لطلباته بالشكل الذي يجعله مطمئنا لهم الى حد ما على الدوام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق