الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل الثالث: بانتظار الحقيقة

تقلب عمر كثيراً في فراشه وهو يغالب النوم فيما تبقى من تلك الليلة دون أن يعرف سببا لكل هذا التفكير في ولاء منذ اللحظة التي نطقت أمه باسمها..

فمع أنه بلغ السابعة عشرة من عمره حديثاً، لكنه لم يفكر يوماً من قبل في فتاة أو في علاقة حب مع إحداهن من بنات القرية أو حتى من خارجها..

فالقرية التي تحضنها بساتين الزيتون وكروم اللوز والتين والاشجار الحرجية من كل جانب، والتي لا تبعد كثيرا عن مدينة نابلس شمال الضفة الغربية لا يخفى فيها أمر.. ومن الصعب أن لا تنكشف علاقة كهذه لتصبح سيرة تتناقلها الألسن في وقت قصير.

كما ان سنوات الاحتلال التي مضت منذ أبصر عمر النور لأول مرة، وشب خلالها نزعت من الناس كل المشاعر الجميلة والأحاسيس الرقيقة، ولم تترك في قلوب الشبان والشابات على السواء سوى رغبات تتأجج كل يوم في المقاومة والانتقام حتى ينتزعوا منه شكل الحياة الطبيعية التي يحياها كل انسان على وجه الارض إلا في مدن وقرى فلسطين المحتلة التي كوى إحتلال الاسرائيليين سكان أهلها من دون تمييز بين طفل وشاب أو مسن .. أنثى كان أم ذكراً .. بأبغض ما يمكن للنفس البشرية ان تتخيله من حقد وكراهية لجنود تفننوا في قتل المارين في الشوارع بلا رحمة.. والتعذيب في المعتقلات بلا شفقة.. ومداهمة والبيوت ونسفها بلا أدنى وازع من ضمير او أخلاق.

ورغم ان القرية كبرت الى حد أنها اصبحت مثل بلدة فيها معصرة للزيتون، ومسجدان، ومدرستان ثانويتان للذكور والإناث، وعلى أطرافها مبان من عدة أدوار.. الا أن سكانها ومعظمهم أقارب من نفس العائلات ما زالوا يرون فيها تلك القرية الصغيرة التي تتكىء وادعة على سفح تل .. والتي تميزها أزقة ضيقة تتلوى بين بيوت قديمة بنيت من قطع حجارة صخرية كبيرة وعريضة لم تتمكن دوريات الاحتلال بسببها من دخولها يوما، خاصة بعدما اشتدت الملاحقة ضد المطاردين والذين كانوا ينزلون من الجبال أحيانا الى بيوتهم للإستحمام والاطمئنان على ذويهم بحراسة مرافقيهم الذين كانوا يتخذون مواقع مراقبة مأمونة عند المداخل.

ومن هؤلاء كان عمر يرى في القائد الميداني المطارد فارس قدوة ومثلاً ينعش فيه شغفه منذ الطفولة بشخصية الثائر الأممي شي جيفارا.. و"جيفارا غزة" محمد الأسود الذي اصبح قائدا لإحدى المجموعات المقاتلة في "طلائع المقاومة الشعبية" بعد هزيمة حزيران، والذي اوقف بعملياته الجريئة سيل الصهاينة لقطاع غزة ومحاولاتهم إغواء الشباب بأساليب الفسق والفجور، والذي واصل كفاحه بعد اعتقاله سنتين ونصف السنة في جو من المطاردة الشرسةـ وقاد الثوار بشكل لا يعرف اليأس، وعاقب الخونة والعملاء بعد محاكمات عادلة وتحذيرهم من قبل من التمادي في الخيانة، ومنع جنود الاحتلال من التجرؤ على دخول غزة في الليل، وأستشهد في نفس العام الذي ولد فيه عمر، وهو العام الذي شهد ايضا حرب اكتوبر عام 1973.

ومنذ طفولته، لم يبصر عمر غير ممارسات الاحتلال الإجرامية البشعة، وظلمه الطاغي من غير غير حدود. ومن الجلسات التي كانت تعقد في بيت عمه الأكبر إتجه تفكيره للعمل الوطني متأثراً بأبطال المقاومة الذين كانت تنسج حولهم الأساطير، وبصعود الخط الرافض في منطقته عام 1974 عندما تشكلت جبهة رفض فلسطينية، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد لاحقا في 17 سبتمبر عام 1978 حيث كان عمره آنذاك سبع سنوات.

وبدلاَ من التفكير في البنات، كان عمر يرى في نفسه وهو الطالب المجد، والذي يتمتع بسمعة محترمة بين أهالي القرية ان يكون بطلاً من أبطال الانتفاضة، تنسج حوله الأساطير أيضا مثلما نسجت حول فارس و"جيفارا غزة" .. وغيرهما من القادة المطاردين الذين دوخوا قوات الاحتلال، وكان مستعدا في سبيل ذلك ان يبذل كل تضحية وتحمل ومكابدة حتى لو تعلق الأمر بالدوس على مشاعره تجاه فتاة رقيقة .. ناعمة.. وجميلة مثل ولاء.

ولكن لو كان في هروب ولاء ما يتعلق بالشرف أو بنقيصة وطنية لما وقف حسام، رفيقه وكاتم سره التنظيمي، وحيداً دون بقية أخوالها إلى جانبها كما ذكرت والدته أثناء حوارها الذي دار مع أبيه.. ولذلك قرر أن يلتقي مع حسام صبيحة اليوم التالي لمعرفة الحقيقة.. مدفوعاً الى ذلك بصورة ولاء التي ظلت مرتسمة في ذاكرته تلك الليلة وهي تشيح بنظرها خجلا عنه، والتي لم تفارقه طيلة ما تبقى من الليل حتى نام.

أما هناك، وفي معتقل عسقلان، فقد استغرق الأمر نحو ساعة حتى عاد الهدوء مرة أخرى في تلك الليلة إلى الغرفة بعد الصدمة المفاجئة التي أحدثها إعتراف نعيم بقتل عالم الذرة الدكتور جليل، وهو لغز لفه غموض كبير حول الظروف التي اختفى فيها فجأة ثم عثر عليه مشنوقا على شجرة قبل ستة اعوام.

كان الدكتور جليل، الذي قفزت صورته لتطغى على كل شيء في رأس غسان طوال ما تبقى من تلك الليلة وهو يغالب النوم عبثا، قد درس في امريكا، وبعد تخرجه عمل استاذا في احدى جامعاتها لبضع سنوات.. واثناء ذلك التقى طالبة امريكية ظلت تطارده حتى أوقعته في شباكها وتزوجته.. لكنهما لم ينجبا أبناء.. وبعدما عاد برفقتها قرر البقاء لخدمة الوطن بأبحاثه ودراساته العلمية، والمشاركة في تعليم أبناء شعبه.. ورغم العروض والإغراءات التي وصلته للعودة الى أمريكا، الا أنه ظل مصراً على البقاء ولم يعد.

وقد أقام أولاً في منزل أهله في مخيم للاجئين.. ثم بنى منزله الخاص على ربوة في جبل جرزيم تطل على جبل عيبال المقابل، وبأسفلهما وادي التفاح شمال غرب مدينة نابلس.

ورغم الخلافات التي نشبت بين عائلة الدكتور جليل التي أرادت بقاءه في الوطن، وعائلة زوجته التي كانت مصرة على عودة إبنتهم الى أمريكا، الا أن الدكتور جليل ظل مصراً على موقفه..

لكن ما كان الدكتور جليل، وكذلك بقية أفراد اهله يعجزون عن فهم سببه هو أن هذا الخلاف كان يتسع يوماً بعد يوم من دون سبب أو مبرر.. وكان يتخذ في بعض الأحيان ابعاداً أخلاقية كاتهامه بالتودد من الطالبات الجميلات، او إغوائهن لإقامة علاقات جنسية معهن.. وأحيانا كانت تذكر أسماء طالبات بعينهن يكنّ فعلاً ممن يقوم بتدريسهن.. فيصيبه ذلك ويصيبهن بالإحراج وهو يدافع عن نفسه أمام هيئة التدريس وفي أوساط الطلبة..

وقد شاع عنه أكثر من مرة أنه سيطلق زوجته ليتزوج إحدى طالباته وهي إبنة رجل أعمال ثري من نابلس.

وأثناء إختفائه تناثرت الأقاويل والشكوك والشائعات في كل مكان، بعضها ما تحدث عن إنتحاره، وبعضها ما رجح نظرية المؤامرة والإنتقام للشرف وغسل العار..

ولكن الحقيقة لم تكن كذلك..

فباعترافه الذي لم يكتمل بعد، فجّر نعيم بركاناً من الحزن والغموض ظل كامناً طيلة ستة أعوام في نفس غسان الذي لم يصدق يوماً أية رواية مما قيلت عن أخيه، والتي كان يتمنى فيما تبقى من تلك الليلة أن يعرف تفاصيلها من دون صبر قبل أن يبزغ فجر اليوم التالي.

لكنه في كل مرة كان يحاول فيها النهوض من "برشه" للتوجه نحو نعيم الذي ظل قابعاً هو الآخر كفأر مذعور قبالته طوال الليل على جدار آخر مفكراً بمصيره بعد انكشاف أمره، كان إياد الذي ظل يقظاً بجواره يمسك به ليعيده الى مكانه مذكراٍ إياه بقواعد التنظيم، وبأن الحقيقة على وشك ان تعرف غداً.. ومواسياً إياه بأن نعيم لا بد أن يدفع الثمن باهظاً بعد إنتهاء التحقيق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق