الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل الثامن عشر: خروج عمر

انطلقت الزغاريد قوية وسرعان من انتشر الخبر ..

فقد خرج عمر من السجن..

وبدموع من الفرح كابدت كي لا تراها زوجة خالها التي نقلت اليها الخبر، كادت ولاء أن تركض حافية اليه من منزل أخوالها لولا أنها تذكرت تعليمات خالها حسام بان لا تحاول الاقتراب منه أيا كان السبب..

فمنذ ان علمت بانهم جاءوا لاعتقاله في تلك الليلة وهي تصارع ندماً ظل يمزقها من الداخل طوال فترة اعتقاله.. ولسبب ما لم تستطع ابدا ان تفسره، ظلت تحاول اقناع نفسها بان في الأمر حكاية اخرى لا يصدقها قلبها وان صدقها الجميع.. فهي لا تنسى ذلك اليوم الذي اندفعت فيه بكل كيانها نحوه.. ولا تغيب عنها عيونه التي تراقصت فرحاً وهو يمد يده نحوها ليتأكد من انه لا يعيش حلماً.. وما كانت اية كلمة من رسالته التي انحفرت عميقا تنمحي من رأسها..

لكنها لا تغفر لنفسها لماذا تركت أوامر خالها حسام تطغى على مشاعرها دون أن تحاول التفكير ولو للحظة كيف انقلب كل ذلك الحب الجارف الى ازدراء واحتقار..

أما هناك.. فكان شعبان أول من قدم الى بيت عمر للتهنئة بخروجه من السجن، كما قدم الى البيت آخرون من القرية، وطوال المدة التي ظل فيها عمر جالسا بصمت دون ان يرى أحداً من التنظيم بينهم، كان الحديث جله منصباً على اخبار العراق والكويت، والاخبار التي تتوارد عن طرد فلسطينيين من دول الخليج، واعلان بعض الدول وقف مساعدتها عن منظمة التحرير، وموقف ابو اياد الرافض للغزو العراقي، وما ينتظر الفلسطينيين بعد هذه الاحداث التي اعلنت واشنطن على اثرها عن تجفيف منابع تمويل منظمة التحرير، وترك ابوعمار يواجه الاعصار القادم على شعبه وانتفاضته منفرداً.

وقبل ان يخرج من منزل عمر، همس شعبان في اذن عمر بانه يريد ان يراه في اليوم التالي للاحتفال بخروجه من السجن.

لكن عمر تعمد ان يظل ملازماً منزله ثلاثة أيام متتالية رغبة في التمويه من جهة، وبانتظار ان يعرف من هو الشخص الذي سيرسله اليه ابوالنمر.

وفي عصر اليوم الرابع توقف شعبان بسيارته أمام المنزل طالبا من عمر اصطحابه الى "مشوار" قصير، فوافق عمر، وكان المشوار قصيرا بالفعل، لكنه كان مؤلما أيضا..

فما ان تحرك شعبان بسيارته قليلا حتى ظهرت ولاء وهي واقفة قرب منزلها تتحدث مع إحدى الجارات.. فارتجت أوصاله.. ولم يستطع إسقاط ناظريه عنها رغم أنها لم تره وهو يعبر بالسيارة من جانبها..

وما ان خرجا من حدود القرية حتى طلب شعبان من عمر ان يخبره بكل ما حدث من يوم اعتقاله حتى يوم الافراج عنه..

ورغم ان صورة ولاء ظلت عالقة في راسه ببنطالها "الجينز" وبلوزتها الصفراء المزركشة وشعرها الداكن الذي كان يطيره الهواء، لكنه بسرعة البديهة تنبه الى أن شعبان ربما كان يريد استدراجه الى إختبار، فراح يتحدث عن كل شيء عدا ما دار بينه وبين ابوالنمر، وردد ما طلب منه ابوالنمر ان يقوله في حال سؤال كهذا بالضبط. وعندما انتهى من روايته، طلب شعبان منه ان يفتح صندوق السيارة الذي امامه.. ففعل.. وطلب منه اخراج مظروف كان مكتوبا عليه اسمه.. ففعل.. وعندما فتحه وجد به مبلغا من المال لم يحصه وهو ينظر مستوضحاً نحو شعبان، والذي رد عليه:

-       "هدية ابو النمر"

وقبل ان يمتزج شعور داخلي غامر بالنصر بقسمات جاهد فيها عمر ان يبدو مندهشاً، اكمل شعبان:

·       من هنا نبدأ.. ومن دون اية اسئلة.. أول ما يريده منك ابو النمر تقرير كامل عن كل الفترة التي عملت فيها مع التنظيم، وبعدها ننتقل للخطوة الثانية.

ورد عمر وما زالت قسمات الدهشه تعلو وجهه:

-       ابو النمر؟ هل انت الذي..؟

ولم يكمل حتى هز شعبان رأسه بالايجاب، ثم قال وهو يلتفت نحوه من مقعده وراء عجلة القيادة:

-       الآن كل شيء واضح.. متى يكون التقرير جاهزا؟ هل تسلمني إياه غداً؟

وظل عمر صامتاً كمن اخذته المفاجأة، لكنه في حقيقة الامر شعر بمأزق التوقيت وخطورة الموقف.. ومن دون ان يغير من ردة فعله على اكتشاف أول الغيث بأن شعبان متورط فعلا مع الشاباك قال:

-       ربما لا استطيع الليلة.. فقد اخذتني المفاجأة حقاَ.. وما زلت مضطرباَ.

ورد شعبان:

·       حتى تعود للبيت تكون قد هدأت.. وعموماَ، لا مانع، سامنحك يوماً اضافياً ويمكنك تسليمه بعد غد.

ورد عمر:

-       حسناً..سابذل جهدي كي انجزه الليلة.. ولكن ماذا تريد ان اكتب فيه؟

ورد شعبان:

·       كل شيء عن علاقتك بالتنظيم.. متى بدأت.. وكيف؟ من جندك؟ من كان مسئولك في الخلية ومن ينقلل التعليمات؟ ومن كان يعمل معك في الوسط الطلابي؟ وما هي العمليات التي قمت بها؟ وما هي العمليات التي تعرفها؟ ومن الذي نفذ تلك العمليات؟ ومتى؟ وماذا تعرف عن المطاردين؟ عددهم؟ من اي مدن وقرى؟ وما تعرفه زيادة عن ذلك.

وسأل عمر شعبان ان كان لديه قلم في السيارة ليدون ما طلبه منه كي لا ينسى شيئاً، فاخرج شعبان قلماً من جيبه وقدمه اليه، وعلى غلاف المظروف دون عمر كل شيء طلبه شعبان بخط متناه في الصغر ثم راح يشطب على كل ما كتب بحيث لا تظهر الكلمات واضحة ومفهومة الا له كما فسر لشعبان..والذي ابدى اعجابا بهذا الحرص في العمل منذ البداية.

وفي طريق عودتهما الى القرية، طلب عمر من شعبان ان ينزله في السوق ليكمل الطريق سيراً على الاقدام من باب الحيطة والحذر.

وما ان تأكد من ان سيارة شعبان قد ابتعدت وغابت عن انظاره حتى ركض مسرعاً باتجاه بقالة ابويوسف .. وهو رجل بسيط من الفلاحين جاوز الستين من عمره، لكنه ما زال مصرا على ارتداء "القمباز".. الذي يسميه البعض "روزة" او "دماية".. والمقلم بخطوط صفراء ذهبية تتخللها خطوط بيضاء على حوافها خط اسود رفيعا، ويحزمه من الوسط بحزام جلدي اسود عريضا.. وعلى رأسه عقال أسود صنع من صوف الغنم فوق "حطة" الصيف البيضاء.. .. وكان عنده بعض الزبائن، فسأله على الفور:

·       عندك "فسيخ"؟

وبدا السؤال غريبا على الزبائن الذين اتجهت كل ابصارهم نحو عمر، لكن ذلك لم يثر ابويوسف والذي حافظ على هدوءه وهو يرد:

-       اليوم كلا.. ولكن مساء الغد انشاء الله.

ثم خرج متجهاً الى البيت وهو يفكر بما سيفعله مع هذه الورطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق