الاثنين، 26 مارس 2012

الفصل التاسع: رسالة حب

بعد اسبوعين من لقائه بها بوجود خالها حسام في نابلس، اصبحت ولاء مثل فرد من أسرة عمر.. فما عادت تغادر البيت الذي تأتيه صباحا الا في ساعة متأخرة من المساء عندما يمر حسام لأخذها الى بيتهم.. وحجتها في ذلك أمام أخوالها انها مستمتعة بصحبة شقيقة عمر، وحكايات والدته التي لا تنتهي، وغياب والده في فلاحة الارض معظم ساعات النهار.. وتواجد عمر معظم الوقت خارج المنزل بصحبة خالها حسام.

ورغم ان الاحداث التي تلاحقت دفعت بالانتفاضة في نهاية الاسبوعين الى التوهج في الشارع، الا ان انتفاضة أخرى من نوع عاطفي كانت تزداد اشتعالاً في صدر عمر.

ومع انه ظل حريصاً على ان يعاملها باحترام بالغ وبشكل رسمي طالما هي موجودة داخل البيت، الا ان عمر لم يكن قادرا على اخفاء اندفاعه بكل احاسيسه ومشاعره محو ولاء، والتي وصلتها مشاعره الفياضة من نظرة عينيه اليها في ذلك اليوم الذي التقيا فيه في المتنزه، فجعلتها تشيح بوجهها من قوة ما أثرت فيها تلك المشاعر، وجعلت قلبها يخفق في مكانه الى درجة ان كوب العصير الذي كانت تحمله بيدها كاد ان يندلق من الرجفة والاهتزاز.

فبعد اربعة ايام من ذلك اللقاء في المتنزه، امتلأت الشوارع بالمظاهرات الغاضبة بعد مشروع قرار مستفز قدمه الكونجرس الامريكي باعتبار القدس عاصمة لاسرائيل.

وفي اليوم نفسه تصاعد التوتر من جهة العراق عندما اغتال عملاء إسرائيليون العالم الكندي امريكي الاصل جيرالد فانسان بول الذي صمم المدفع العراقي العملاق "بابل" في بلجيكا.

وبعدها بستة ايام اعلنت الجمارك البريطانية عن ضبط 40 جهاز كريترون امريكي الصنع تستخدم في تركيب القنابل النووية كانت في طريقها الى العراق.

وفي نهاية مارس انضمت استونيا لقائمة الدول التي راحت تستقل تباعاً عن الاتحاد السوفياتي كما توقع المفوض السياسي في التنظيم.

لكن ما رفع وتيرة المواجهات بقوة في ذلك اليوم هو احياء الذكرى الرابعة عشرة ليوم الارض.

فقد تناغمت كل الارض الفلسطينية في ذلك اليوم بنفس الهتافات والأدوات.. شعب واحد كان يصرخ بين أكثر من 200 مليون فرد رفعوا اعلام فلسطين في 141 دولة منادياً بالحرية والاستقلال.. فيما راح الاسرائيليون يعبئون ماكنة سياسية لتحويل الانظار نحو خطر قادم من العراق، فاطلقوا في اليوم نفسه تهديدا بضرب بغداد اذا احسوا بانها اقتربت من انتاج الاسلحة النووية. وهو التهديد الذي رد عليه صدام حسين بعد ثلاثة أيام بحرق نصف اسرائيل بالكيماوي المزدوج اذا أقدمت اسرائيل على تلك المغامرة.

وقامت الدنيا ولم تقعد بعد تهديدات صدام.. واشتدت الاوضاع سخونة على الارض.. فقد جاءت تهديدات صدام مثل وقود ألهب جذوة الانتفاضة.. فرفعت صوره في المظاهرات ... وزاوج رماة الحجارة ومشعلي الاطارات بين العلمين العراقي والفلسطيني وهم يرفعونهما على الحواجز أمام الجنود الاسرائيليين الذين كانوا يردون عليهم بالرصاص الحي والمطاطي من آليات تزنرت نوافذها واطاراتها بالشباك الواقية.

ومع سخونة الاحداث السياسية، كانت المشاعر تتدفق يوما بعد آخر بسخونة أعلى عاطفيا ولكن بصمت من عمر كلما رأى ولاء..

فقد كبرت في نظره بموقفها الشجاع.. وقرارها الصائب في الهروب.. كما أعجبه ذكائها المتقد.. ولمس ثقافتها العالية في كل مرة كان يجد فيها فرصة للحوار ولو كان قصيراً..

وفي النهاية أوصلته قناعته بانه لا يقدم ولا يؤخر في موضوع تحصينها.. فهي محصنّة الى درجة انها قادرة على تحصينه هو.. وصار يعتقد بان القدر هو الذي دفعها الى طريقه ليتعلم معها لغة الحب التي لم يتعلمها أبدا من قبل وهو منشغل بتحقيق احلامه في ان يكون بطلا لقصة كفاح وطنية .. لا عاطفية.

وهي كذلك.. فقد وجدت في عمر منذ لقائها به مع خالها طريقا للخلاص مما هربت منه.. وأولته اهتماماً لم تستطع اخفاءه امام شقيقته وهي تكثر في السؤال عنه.. أاو عندما كانت تعبر لها عن اعجابها بحماسته الوطنية وبطريقته في التفكير.. وشعورها الغريب بالراحة والاطمئنان كلما تحدثت اليه.

وقد لاحظ عمر انها تكثر في تقليب الكتب التي يحفظها في غرفته عندما لا يكون موجودا.. وعرف ذلك من شقيقته التي ابلغته ذات مرة انهما غالباً ما تقضيان وقتهما في تلك الغرفة عندما لا يكون موجوداً في البيت..

كما ابلغته في مرة اخرى ان ولاء تحب الاستلقاء أحيانا على سريره عندما تقرأ واحدا من كتبه.. فراح يشمّ في كل ليلة الوسادة واللحاف عساها تكون تركت شيئا من رائحتها عليهما..

وقبل أيام من تهديد صدام بحرق نصف اسرائيل حاول ان يفاتحها باي طريقة بما كان يشتعل في صدره وما لم يكن قادراً على البوح به .. لكنه لم يجد جرأة لذلك.. فقد كان يرى ان الأولوية في العلاقة معها هي للمهمة المطلوبة منه.. اما الحب، فكأنما هو شيء قد حجب عنه طالما انه يناضل من أجل هدف أسمى.

لكنه تحت وطاة التفكير الذي ما كان ليتوقف بها، وجد الشجاعة أخيرا بطريقة يختبر فيها ردة فعلها على تلك المشاعر الجياشة التي تعصف بداخله..

وكانت الفكرة بسيطة.

فبعد يومين، وبينما راحت ولاء تقلب كتابا لم تصل يدها اليه بعد، سقطت ورقة كان يبدو انها كتبت للتو، فاعادتها الى مكانها.. لكنها بدافع الفضول عادت اليها مرة اخرى بعدما خرجت شقيقة عمر من الغرفة، وما ان فتحتها حتى عرفت بانها رسالة موجهة اليها رغم انها ما كانت تحمل اسما ولا شيء واضحا يشير الى ما كتبت من اجله..او لمن هي مرسلة اليه..

فقد كتب يقول:

"حين التقت العيون أول مرة خفق القلب..

وفي الثانية ارتعش الجسد..

كم هو قوي هذا الحب الذي يجرفني كالاعصار..

حب جمّل حياتي..

وجعل كل ايامي مذ رأيتك ملأى بالحب..

وانا العاشق الذي لم اعرف الحب يوما..

أسائل نفسي .. فتحدثني نفسي:

لا بأس ان تحاور نفسك.. ولا بأس ان تجيب على نفسك.. ولكن عندما لا تجد الاجابة، فقد يأخذك الطوفان الى هلاك".

وكاد عمر ان يطير فرحاً في تلك الليلة التي عرف فيها ان رسالته انفتحت امامها.. لكنه شعر بقلق وخوف عميقين ايضاً.. فقد انتقلت الرسالة من مكانها الذي علّمه بين صفحتين في ثلثه الاول الى صفحتين في مقدمة الكتاب، وعندما قربها من أنفه، اشتم نفس رائحة العطر الخفيف الذي عبق في "المتنزه"، والذي كان ما زال عالقا من أثر أصابعها.

ورغم ان الرسالة أعيدت الى مكان آخر بين صفحات الكتاب كما تركها تماما بنفس الشكل الذي طويت فيه، الا انه لم يلحظ اية اشارة او علامة تشير الى شيء ينبىء عن خطوتها التالية .. لذا امضى الليل حتى غفا وهو يفكر في التوقعات والاحتمالات..

وفي اليوم التالي خاب أمل عمر.. وكذلك في الايام الثلاثة التي تلته والتي لم يشاهد فيها ولاء في المنزل أبدا اثناء وجوده فيه رغم انها كانت تأتي اليه كالعادة كما كان يعرف من اخته.. إذ كلّما كان يعود لتقليب صفحات الكتاب نفسه في الليل، لم يكن يجد بينها شيئاً جديداً.. وفي الليلة الثالثة، لم يترك كتاباً على رفوف مكتبته الصغيرة دون أن يقلبه صفحة صفحة.. وعندما استبد به القلق أكثر.. راح يبحث عن شيء ربما تكون قد تركته تحت الوسادة او اللحاف.. أو ربما تحت بعض الأواني الموجودة في غرفته .. أو تكون أخفت شيئاً بداخلها.. لكنه عبثاً كان يحاول.

وعندما جلس لنفسه أخيرا راح يأكله ندم التسرع.. فهي وإن لم تكن تفكر فيه بالطريقة التي كان يفكر فيها.. أو تبادله ما كان يتمنى.. لكنه ما كان يريد أن يسقط في امتحان فارس أيضاً.. ولذلك قرر ان يواجهها في أول فرصة تالية سيراها في المنزل ليستعيد ثقتها به كمكلف من اجل المهمة المتعلقة بها فقط.. وان يغفل موضوع الرسالة.. معزّياً نفسه بانه لم يخطىء عندما تركها مكتوبة مثل خاطرة دون أن تشير الى أن أحدا ما هو المقصود بها بعينه.

لكن المفاجأة وقعت عليه كالزلزال عندما التقاها..

فقد كان ما زال في غرفته متعمداً انتظار وصولها كما تفعل كل صباح، وقد ابلغ اخته بعيداً عن مسامع الباقين بانه يريد ان تدخلها الى الغرفة ثم تخرج هي منها بأي عذر حالما تصل.. وعندما وقفا وجها لوجه.. هزه الارتباك من جديد.. لكنه ظل متماسكاً وهو يتراجع للخلف بقدمين مرتعشتين ناحية السرير ليجلس على طرفه.. فيما ظلت هي واقفة في مكانها خافضة الرأس مثل حائرة.

ثم راح يبحث عن مدخل لاي حديث يبدد السكون الذي اطبق في الغرفة..

وبعد تردد قال:

·       هناك موضوع أردت ان أحدثك فيه..

وكان يوحي انه يقصد الحديث في موضوع تحصينها..

لكنها فاجأته بالرد وهي ترفع رأسها لتتلاقي العيون ثابتة هذه المرة:

-       موضوع الرسالة؟

وحاول عمر ان يخفي حالة الارتباك التي عاودته مرة اخرى، فسألها متظاهرا بانه لا يفهم ما كانت تعنيه:

·       اية رسالة؟

فردت وهي ترسم ابتسامة نفثت موجات من الفرح في مكنون اعماقه:

-       الرسالة التي تركتها بين الصفحتين 18 و19 وتركتها لك بين الصفحتين 4 و5..

واستأنفت قائلة:

·       كنت اظنك أذكى من ذلك.

وللوهلة الاولى لم يفهم عمر لماذا نعتته ولاء بالغباء.. لكنه سرعان ما طابق الرقم 18 باليوم الذي التقاها مع خالها حسام في المنتزه.. والرقم 5 بالخامس من ابريل، وهو اليوم الذي عرف فيه انها قرأت تلك الرسالة، فادرك لحظتها انها ردت عليه في اليوم نفسه الذي وقعت فيه الرسالة بين اصابعها من دون ان تكتب شيئاً، ومن دون ان يفكر بانها ستكون دقيقة في ردها بالطريقة نفسها التي استخدمها الى هذا الحد.

وبعد صمت عاد يطبق على الغرفة للحظات بينما هو متسمر في مكانه وهي واقفة قبالته.. نهض عمر تتقدمه يده المرتجفة نحو يدها اليمنى التي استقبلتها بدفء، وانشدت عليها فيما كانت العيون تغوصان في العيون، والقلبان يخفقان.. والشفاه تكاد ان تقترب لولا دخول اخت عمر في تلك اللحظة.. فسحب يده وخرج مسرعا من الغرفة.

وفي عصر ذلك اليوم قبل ان يعود الى منزله.. التقاه حسام ليبلغه بان فارس يريد ان يراه في نفس الليلة لأمر عاجل، وحدد له مكاناً ينتظر ملثمين سوف يقودونه الى مكان اللقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق